الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا، ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما} قوله تعالى{قضيتم} معناه فرغتم من صلاه الخوف وهذا يدل على أن القضاء يستعمل فيما قد فعل قي وقته؛ ومنه قوله تعالى قوله تعالى{فإذا اطمأننتم} أي أمنتم. والطمأنينة سكون النفس من الخوف. }فأقيموا الصلاة} أي فأتوها بأركانها وبكمال هيئتها في السفر، وبكمال عددها في الحضر. }إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} أي مؤقتة مفروضة. وقال زيد بن أسلم{موقوتا }منجما، أي تؤدونها في أنجمها؛ والمعنى عند أهل اللغة: مفروض لوقت بعينه؛ يقال: وقته فهو موقوت. ووقته فهو مؤقت. وهذا قول زيد بن أسلم بعينه. وقال{كتابا }والمصدر مذكر؛ فلهذا قال{موقوتا}. قوله تعالى{ولا تهنوا} أي لا تضعفوا، وقد تقدم في }آل عمران}. }في ابتغاء القوم} طلبهم. قيل: نزلت في حرب أحد حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج في آثار المشركين، وكان بالمسلمين جراحات، وكان أمر ألا يخرج معه إلا من كان في الوقعة، كما تقدم في }آل عمران} وقيل: هذا في كل جهاد. قوله تعالى{إن تكونوا تألمون} أي تتألمون مما أصابكم من الجراح فهم يتألمون أيضا مما يصيبهم، ولكم مزية وهي أنكم ترجون ثواب الله وهم لا يرجونه؛ وذلك أن من لا يؤمن بالله. لا يرجون من الله شيئا. ونظير هذه الآية {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} في هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتكريم وتعظيم وتفويض إليه، وتقويم أيضا على الجادة في الحكم، وتأنيب على ما رفع إليه من أمر بني أبيرق ! وكانوا ثلاثة إخوة: بشر وبشير ومبشر، وأسير بن عروة ابن عم لهم؛ نقبوا مشربة لرفاعة بن زيد في الليل وسرقوا أدراعا له وطعاما، فعثر على ذلك. وقيل إن السارق بشير وحده، وكان يكنى أبا طعمة أخذ درعا؛ قيل: كان الدرع في جراب فيه دقيق، فكان الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى داره، فجاء ابن أخي رفاعة واسمه قتادة بن النعمان يشكوهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فجاء أسير بن عروة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن هؤلاء عمدوا إلى أهل بيت هم أهل صلاح ودين فأنبوهم بالسرقة ورموهم بها من غير بينة؛ وجعل يجادل عنهم حتى غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتادة ورفاعة؛ فأنزل الله تعالى ظننتم بأني خفي الذي قد صنعتمو وفينا نبي عنده الوحي واضعه فلما بلغها قالت: إنما أهديت لي شعر حسان؛ وأخذت رحله فطرحته خارج المنزل، فهرب إلى خيبر وأرتد. ثم إنه نقب بيتا ذات ليلة ليسرق فسقط الحائط عليه فمات مرتدا. ذكر هذا الحديث بكثير من ألفاظه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني. وذكره الليث والطبري بألفاظ مختلفة. وذكر قصة موته يحيى بن سلام في تفسيره، والقشري كذلك وزاد ذكر الردة. ثم قيل: كان زيد بن السمين ولبيد بن سهل يهوديين. وقيل: كان لبيد مسلما. وذكره المهدوي، وأدخله أبو عمر في كتاب الصحابة له، فدل ذلك على إسلامه عنده. وكان بشير رجلا منافقا يهجو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وينحل الشعر غيره، وكان المسلمون يقولون: والله ما هو إلا شعر الخبيث. فقال شعرا يتنصل فيه؛ فمنه قوله: وقال الضحاك: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يده وكان مطاعا، فجاءت اليهود شاكين في السلاح فأخذوه وهربوا به؛ فنزل قوله تعالى{بما أراك الله} معناه على قوانين الشرع؛ إما بوحي ونص، أو بنظر جار على سنن الوحي. وهذا أصل في القياس؛ وهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئا أصاب؛ لأن الله تعالى أراه ذلك، وقد ضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة؛ فأما أحدنا إذا رأى شيئا يظنه فلا قطع فيما رآه، ولم يرد رؤية العين هنا؛ لأن الحكم لا يرى بالعين. وفي الكلام إضمار، أي بما أراكه الله، وفيه إضمار آخر، وامض الأحكام على ما عرفناك من غير اغترار باستدلالهم. قوله تعالى{ولا تكن للخائنين خصيما} اسم فاعل؛ كقولك: جالسته فأنا جليسه، ولا يكون فعيلا هنا بمعنى مفعول؛ يدل على ذلك }ولا تجادل }فالخصيم هو المجادل وجمع الخصيم خصماء. وقيل: خصيما مخاصما اسم فاعل أيضا. فنهى الله عز وجل رسول عن عضد أهل التهم والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة. وفي هذا دليل على أن النيابة عن المبطل والمتهم في الخصومة لا تجوز. فلا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق. ومشى الكلام في السورة على حفظ أموال اليتامى والناس؛ فبين أن مال الكافر محفوظ عليه كمال المسلم، إلا في الموضع الذي أباحه الله تعالى. قال العلماء: ولا ينبغي إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق منهم فريقا عنهم ليحموهم ويدفعوا عنهم؛ فإن هذا قد وقع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل قوله تعالى{ولا تكن للخائنين خصيما }وقوله {واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما} ذهب الطبري إلى أن المعنى: استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين؛ فأمره بالاستغفار لما هم بالدفع عنهم وقطع يد اليهودي. وهذا مذهب من جوز الصغائر على الأنبياء، صلوات الله عليهم. قال ابن عطية: وهذا ليس بذنب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دافع على الظاهر وهو يعتقد براءتهم. والمعنى: واستغفر الله للمذنبين من أمتك والمتخاصمين بالباطل؛ ومحلك من الناس أن تسمع من المتداعيين وتقضي بنحو ما تسمع، وتستغفر للمذنب. وقيل: هو أمر بالاستغفار على طريق التسبيح، كالرجل يقول: استغفر الله؛ على وجه التسبيح من غير أن يقصد توبة من ذنب. وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد بنو أبيرق، كقوله تعالى {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} أي لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم؛ نزلت في أسير بن عروة كما تقدم. والمجادلة المخاصمة، من الجدل وهو الفتل؛ ومنه رجل مجدول الخلق، ومنه الأجدل للصقر. وقيل: هو من الجدالة وهي وجه الأرض، فكل واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها؛ قال العجاج: منعفرا ليست له محاله الجدالة الأرض؛ من ذلك قولهم: تركته مجدلا؛ أي مطروحا على الجدالة. }إن الله لا يحب} أي لا يرضى عنه ولا ينوه بذكر. }من كان خوانا أثيما} خائنا. (وخوانا ) أبلغ؛ لأنه من أبنية المبالغة؛ وإنما كان ذلك لعظم قدر تلك الخيانة. والله أعلم. {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا، ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا} قال الضحاك: لما سرق الدرع اتخذ حفرة في بيته وجعل الدرع تحت التراب؛ فنزلت }يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله }يقول: لا يخفى مكان الدرع على الله }وهو معهم} أي رقيب حفيظ عليهم. وقيل{يستخفون من الناس }أي يستترون، كما قال تعالى قوله تعالى{ها أنتم هؤلاء} يريد قوم بشير السارق لما هربوا به وجادلوا عنه. قال الزجاج{هؤلاء} بمعنى الذين. }جادلتم} حاججتم. }في الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة} استفهام معناه الإنكار والتوبيخ. }أم من يكون عليهم وكيلا} الوكيل: القائم بتدبير الأمور، فالله تعالى قائم بتدبير خلقه. والمعنى: لا أحد يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه وأدخلهم النار. {ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} قال ابن عباس: عرض الله التوبة على بني أبيرق بهذه الآية، أي }ومن يعمل سوءا }بأن يسرق }أو يظلم نفسه }بأن يشرك }ثم يستغفر الله} يعني بالتوبة، فإن الاستغفار باللسان من غير توبة لا ينفع، وقد بيناه في }آل عمران}. وقال الضحاك: نزلت الآية في شأن وحشي قاتل حمزة أشرك بالله وقتل حمزة، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إني لنادم فهل لي من توبة ؟ فنزل{ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه }الآية. وقيل: المراد بهذه الآية العموم والشمول لجميع الخلق. وروى سفيان عن أبي إسحاق عن الأسود وعلقمة قالا: قال عبدالله بن مسعود من قرأ هاتين الآيتين من سورة }النساء }ثم استغفر له{ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما}. {ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما، ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا} قوله تعالى{ومن يكسب إثما} أي ذنبا }فإنما يكسبه على نفسه} أي عاقبته عائدة عليه. والكسب ما يجر به الإنسان إلى نفسه نفعا أو يدفع عنه به ضررا؛ ولهذا لا يسمى فعل الرب تعالى كسبا. قوله تعالى{ومن يكسب خطيئة أو إثما} قيل: هما بمعنى واحد كرر لاختلف اللفظ تأكيدا. وقال الطبري: إنما فرق بين الخطيئة والإثم أن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد. وقيل: الخطيئة ما لم تتعمده خاصة كالقتل بالخطأ. وقيل: الخطيئة الصغيرة، والإثم الكبيرة، وهذه الآية لفظها عام يندرج تحته أهل النازلة وغيرهم. قوله تعالى{ثم يرم به بريئا} قد تقدم اسم البريء في البقرة. والهاء في }به }للإثم أو للخطيئة. لأن معناها الإثم، أولهما جميعا. وقيل: ترجع إلى الكسب. }فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا} تشبيه؛ إذ الذنوب ثقل ووزر فهي كالمحمولات. وقد قال تعالى {ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} قوله تعالى{ولولا فضل الله عليك ورحمته} ما بعد }لولا} مرفوع بالابتداء عند سيبويه، والخبر محذوف لا يظهر، والمعنى{ولولا فضل الله عليك ورحمته }بأن نبهك على الحق، وقيل: بالنبوءة والعصمة. }لهمت طائفة منهم أن يضلوك }عن الحق؛ لأنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبرئ ابن أبيرق من التهمة ويلحقها اليهودي، فتفضل الله عز وجل على رسوله عليه السلام بأن نبهه على ذلك وأعلمه إياه. }وما يضلون إلا أنفسهم }لأنهم يعملون عمل الضالين، فوباله لهم راجع عليهم. }وما يضرونك من شيء }لأنك معصوم. }وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} هذا ابتداء كلام. وقيل: الواو للحال، كقولك: جئتك والشمس طالعة؛ ومنه قول امرئ القيس: فالكلام متصل، أي ما يضرونك من شيء مع إنزال الله عليك القرآن. }والحكمة} القضاء بالوحي. }وعلمك ما لم تكن تعلم} يعني من الشرائع والأحكام وكان فضله عليك كبيرا. و}تعلم} في موضع نصب؛ لأنه خبر كان. وحذفت الضمة من النون للجزم، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين. {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما} أراد ما تفاوض به قوم بني أبيرق من التدبير، وذكروه النبي صلى الله عليه وسلم. والنجوى: السر بين الاثنين، تقول: ناجيت فلانا مناجاة ونجاء وهم ينتجون ويتناجون. ونجوت فلانا أنجوه نجوا، أي ناجيته، فنجوى مشتقة من نجوت الشيء أنجوه، أي خلصته وأفردته، والنجوة من الأرض المرتفع لانفراده بارتفاعه عما حوله، قال الشاعر: فالنجوى المسارة، مصدر، وقد تسمى به الجماعة، كما يقال: قوم عدل ورضا. قال الله تعالى وأنشد الرياشي: ففي شكور الشكور لها جزاء وعند الله ما كفر الكفور وقال الماوردي{فينبغي لمن يقدر على إسداء المعروف أن يعجله حذار فواته، ويبادر به خيفة عجزه، وليعلم أنه من فرص زمانه، وغنائم إمكانه، ولا يهمله ثقة بالقدرة عليه، فكم من واثق بالقدرة فاتت فأعقبت ندما، ومعول على مكنة زالت فأورثت خجلا، كما قال الشاعر: ولو فطن لنوائب دهره، وتحفظ من عواقب أمره لكانت مغانمه مذخورة، ومغارمه مجبورة، فقد ولا تغفل عن الإحسان فيها فما تدري السكون متى يكون وكتب بعض ذوي الحرمات إلى وال قصر في رعاية حرمته: للنفع في الدنيا أريدك، فأنتبه لحوائجي من رقدة النوام وقال العباس رضي الله عنه: لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال: تعجيله وتصغيره وستره، فإذا عجلته هنأته، وإذا صغرته عظمته، وإذا سترته أتممته. وقال بعض الشعراء: تتناساه كأن لم تأته وهو عند الناس مشهور خطير ومن شرط المعروف ترك الامتنان به، وترك الإعجاب بفعله، لما فيهما من إسقاط الشكر وإحباط الأجر. وقد تقدم في }البقرة }بيانه. قوله تعالى{أو إصلاح بين الناس} عام في الدماء والأموال والأعراض، وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين، وفي كل كلام يراد به وجه الله تعالى. {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا، إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا} قال العلماء: هاتان الآيتان نزلنا بسبب ابن أبيرق السارق، لما حكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه بالقطع وهرب إلى مكة وارتد؛ قال سعيد بن جبير: لما صار إلى مكة نقب بيتا بمكة فلحقه المشركون فقتلوه؛ فأنزل الله تعالى{إن الله لا يغفر أن يشرك به }إلى قوله{فقد ضل ضلالا بعيدا}. وقال الضحاك: قدم نفر من قريش المدينة وأسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين فنزلت هذه الآية }ومن يشاقق الرسول}. والمشاقة المعاداة. والآية وإن نزلت في سارق الدرع أو غيره فهي عامة في كل من خالف طريق المسلمين. و}الهدى }: الرشد والبيان، وقد تقدم. وقوله تعالى{نوله ما تولى }يقال: إنه نزل فيمن ارتد؛ والمعنى؛ نتركه وما يعبد؛ عن مجاهد. أي نكله إلى الأصنام التي لا تنفع ولا تضر؛ وقال مقاتل. وقال الكلبي؛ نزل قوله تعالى{نوله ما تولى }في ابن أبيرق؛ لما ظهرت حاله وسرقته هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا لرجل بمكة يقال له: حجاج بن علاط، فسقط فبقي في النقب حتى وجد على حاله، وأخرجوه من مكة؛ فخرج إلى الشام فسرق بعض أموال القافلة فرجموه وقتلوه، فنزلت }نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}. وقرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو }نولِهْ }}ونصلِهْ }بجزم الهاء، والباقون بكسرها، وهما لغتان. قال العلماء في قوله تعالى{ومن يشاقق الرسول }دليل على صحة القول بالإجماع، وفي قوله تعالى{إن الله لا يغفر أن يشرك به }رد على الخوارج؛ حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر. وقد تقدم القول في هذا المعنى. وروى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }قال: هذا حديث غريب. قال ابن فورك: وأجمع أصحابنا على أنه لا تخليد إلا للكافر، وأن الفاسق من أهل القبلة إذا مات غير تائب فإنه إن عذب بالنار فلا محالة أنه يخرج منها بشفاعة الرسول؛ أو بابتداء رحمة من الله تعالى. وقال الضحاك: إن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا، إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به، فما حالي عند الله ؟ فأنزل الله تعالى{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }الآية. {إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا} قوله تعالى{إن يدعون من دونه} أي من دون الله }إلا إناثا}؛ نزلت في أهل مكة إذ عبدوا الأصنام. و}إن }نافية بمعنى }ما}. و}إناثا} أصناما، يعني اللات والعزى ومناة. وكان لكل حي صنم يعبدونه ويقولون: أنثى بني فلان، قال الحسن وابن عباس، وأتى مع كل صنم شيطانه يتراءى للسدنة والكهنة ويكلمهم؛ فخرج الكلام مخرج التعجب؛ لأن الأنثى من كل جنس أخسه؛ فهذا جهل ممن يشرك بالله جمادا فيسميه أنثى، أو يعتقده أنثى. وقيل{إلا إناثا }مواتا؛ لأن الموات لا روح له، كالخشبة والحجر. والموات يخبر عنه كما يخبر عن المؤنث لا تضاع المنزلة؛ تقول: الأحجار تجبني، كما تقول: المرأة تعجبني. وقيل{إلا إناثا }ملائكة؛ لقولهم: الملائكة بنات الله، وهي شفعاؤنا عند الله؛ عن الضحاك. وقراءة ابن عباس }إلا وثنا }بفتح الواو والثاء على إفراد اسم الجنس؛ وقرأ أيضا }وثنا }بضم الثاء والواو؛ جمع وثن. وأوثان أيضا جمع وثن مثل أسد وآساد. النحاس: ولم يقرأ به فيما علمت. قلت: قد ذكر أبو بكر الأنباري - حدثنا أبي حدثنا نصر بن داود حدثنا أبو عبيد حدثنا حجاج عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها أنها كانت تقرأ{إن يدعون من دونه إلا أوثانا}. وقرأ ابن عباس أيضا }إلا أثنا} كأنه جمع وثنا على وثان؛ كما تقول: جمل وجمال، ثم جمع أوثانا على وثن؛ كما تقول: مثال ومثل؛ ثم أبدل من الواو همزة لما انضمت؛ كما قال عز وجل قوله تعالى{وإن يدعون إلا شيطانا مريدا} يريد إبليس؛ لأنهم إذا أطاعوه فيما سول لهم فقد عبدوه؛ ونظيره في المعنى {لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا} قوله تعالى{لعنه الله} أصل اللعن الإبعاد، وقد تقدم. وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط وغضب؛ فلعنة الله على إبليس - عليه لعنة الله - على التعيين جائزة، وكذلك سائر الكفرة الموتى كفرعون وهامان وأبي جهل؛ فأما الأحياء فقد مضى الكلام فيه في }البقرة}. قوله تعالى{وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا} أي وقال الشيطان؛ والمعنى: لاستخلصنهم. بغوايتي وأضلنهم بإضلالي، وهم الكفرة والعصاة. قلت: وهذا صحيح معنى؛ يعضده {ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا} قوله تعالى{ولأضلنهم} أي لأصرفنهم عن طريق الهدى. }ولأمنينهم }أي لأسولن لهم، من التمني، وهذا لا ينحصر إلى واحد من الأمنية، لأن كل واحد في نفسه إنما يمنيه بقدر رغبته وقرائن حاله. وقيل: لأمنينهم طول الحياة الخير والتوبة والمعرفة مع الإصرار. }ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام }البتك القطع، ومنه سيف باتك. أي أحملهم على قطع آذان البحيرة والسائبة ونحوه. يقال: بتكه وبتكه، (مخففا ومشددا ) وفي يده قطعة، والجمع بتك، قال زهير: قوله تعالى{ولآمرنهم فليغيرن خلق الله }اللامات كلها للقسم. واختلف العلماء في هذا التغيير إلى ماذا يرجع، فقالت طائفة: هو الخصاء وفقء الأعين وقطع الآذان، قال معناه ابن عباس وأنس وعكرمة وأبو صالح. وذلك كله تعذيب، للحيوان، وتحريم وتحليل بالطغيان، وقول بغير حجة ولا برهان. والآذان في الأنعام جمال ومنفعة، وكذلك غيرها من الأعضاء، فلذلك رأى الشيطان أن يغير بها خلق الله تعالى. ولما كان هذا من فعل الشيطان وأثره أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم }أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء ) أخرجه أبو داود عن علي قال: أمرنا؛ فذكره. المقابلة: المقطوعة طرف الأذن. والمدابرة المقطوعة مؤخر الأذن. والشرقاء: مشقوقة الأذن. والخرقاء التي تخرق أذنها السمة. والعيب في الأذن مراعى عند جماعة العلماء. قال مالك والليث: المقطوعة الأذن أو جل الأذن لا تجزئ، والشق للميسم يجزئ، وهو قول الشافعي وجماعة الفقهاء. فإن كانت سكاء، وهى التي خلقت بلا أذن فقال مالك والشافعي: لا تجوز. وإن كانت صغيرة الأذن أجزأت، وروي عن أبي حنيفة مثل ذلك. وأما خصاء البهائم فرخص فيه جماعة من أهل العلم إذا قصدت فيه المنفعة إما لسمن أو غيره. والجمهور من العلماء وجماعتهم على أنه لا بأس أن يضحي بالخصي، واستحسنه بعضهم إذا كان أسمن من غيره. ورخص في خصاء الخيل عمر بن عبدالعزيز. وخصى عروة بن الزبير بغلا له. ورخص مالك في خصاء ذكور الغنم، وإنما جاز ذلك لأنه لا يقصد به تعليق الحيوان بالدين لصنم يعبد، ولا لرب يوحد. وإنما يقصد به تطييب اللحم فيما يؤكل، وتقوية الذكر إذا انقطع أمله عن الأنثى. ومنهم من كره ذلك، قلت: أسنده أبو محمد عبدالغني من الرابعة: وأما الخصاء في الآدمي فمصيبة، فإنه إذا خصي بطل قلبه وقوته، عكس الحيوان، وانقطع نسله المأمور به في قوله عليه السلام: وإذا تقرر هذا فاعلم أن الوسم والإشعار مستثنى من نهيه عليه السلام عن شريطة الشيطان، وهي ما قدمناه من نهيه عن تعذيب الحيوان بالنار، والوسم: الكي بالنار وأصله العلامة، يقال: وسم الشيء يسمه إذا علمه بعلامة يعرف بها، ومنه قوله تعالى والوسم جائز في كل الأعضاء غير الوجه، لما رواه جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه، أخرجه مسلم. وإنما كان ذلك لشرفه على الأعضاء، إذ هو مقر الحسن والجمال، ولأن به قوام الحيوان، وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل يضرب عبده فقال: قال القاضي عياض: وجاء حديث بالنهي عن تسويد الحناء، ذكره صاحب المصابيح ولا تتعطل، ويكون في عنقها قلادة من سير في خرز، قلت: ومن هذا الباب وقالت طائفة: المراد بالتغيير لخلق الله هو أن الله تعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من المخلوقات؛ ليعتبر بها وينتفع بها، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة. قال الزجاج: إن الله تعالى خلق الأنعام لتركب وتؤكل فحرموها على أنفسهم، وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس فجعلوها آلهة يعبدونها، فقد غيروا ما خلق الله. وقاله جماعة من أهل التفسير: مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة. وروي عن ابن عباس }فليغيرن خلق الله }دين الله؛ وقال النخعي، واختاره الطبري قال: وإذا كان ذلك معناه دخل فيه فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ووشم وغير ذلك من المعاصي؛ لأن الشيطان يدعو إلى جميع المعاصي؛ أي فليغيرن ما خلق الله في دينه. وقال مجاهد أيضا{فليغيرن خلق الله }فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ يعني أنهم ولدوا على الإسلام فأمرهم الشيطان بتغييره، وهو معنى قوله عليه السلام: قلت: ثم أنكح أسامة فاطمة بنت قيس وكانت بيضاء قرشية. وقد كانت تحت بلال أخت عبدالرحمن بن عوف زهرية. وهذا أيضا يخص وقد خفي عليهما. قوله تعالى{ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله} أي يطيعه ويدع أمر الله. }فقد خسر} أي نقص نفسه وغبنها بأن أعطى الشيطان حق الله تعالى فيه وتركه من أجله. {يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا، والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا} قوله تعالى{يعدهم }المعنى يعدهم أباطيله وترهاته من المال والجاه والرياسة، وأن لا بعث ولا عقاب، ويوهمهم الفقر حتى لا ينفقوا في الخير }ويمنيهم }كذلك }وما يعدهم الشيطان إلا غرورا }أي خديعة. قال ابن عرفة: الغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه وفيه باطن مكروه أو مجهول. والشيطان غرور؛ لأنه يحمل على محاب النفس، ووراء ذلك ما يسوء. }أولئك }ابتداء }مأواهم }ابتداء ثان }جهنم }خبر الثاني والجملة خبر الأول. و}محيصا }ملجأ، والفعل منه حاص يحيص. }ومن أصدق من الله قيلا }ابتداء وخبر. }قيلا }على البيان؛ قال قيلا وقولا وقالا، بمعنى أي لا أحد أصدق من الله. وقد مضى الكلام على ما تضمنته هذه الآي من المعاني والحمد لله. {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا} قوله تعالى{ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب} وقرأ أبو جعفر المدني }ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب }بتخفيف الياء فيها جميعا. ومن أحسن ما روي في نزولها ما رواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: قالت اليهود والنصارى لن يدخل الجنة إلا من كان منا. وقالت قريش: ليس نبعث، فأنزل الله }ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب}. وقال قتادة والسدي: تفاخر المؤمنون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أحق بالله منكم. وقال المؤمنون: نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على سائر الكتب، فنزلت الآية. قوله تعالى{من يعمل سوءا يجز به }السوء ههنا الشرك، قال الحسن: هذه الآية في الكافر، وقرأ قلت: خرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا قال حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن أمه أنها سألت عائشة عن هذه الآية قوله تعالى{ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا }يعني المشركين؛ لقوله تعالى {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا} شرط الإيمان لأن المشركين أدلوا بخدمة الكعبة وإطعام الحجيج وقرى الأضياف، وأهل الكتاب بسبقهم، وقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه؛ فبين تعالى أن الأعمال الحسنة لا تقبل من غير إيمان. وقرأ }يدخلون الجنة }الشيخان أبو عمرو وابن كثير (بضم الياء وفتح الخاء ) على ما لم يسم فاعله. الباقون بفتح الياء وضم الخاء؛ يعني يدخلون الجنة بأعمالهم. وقد مضى ذكر النقير وهي النكتة في ظهر النواة. {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا} قوله تعالى{ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا} فضل دين الإسلام على سائر الأديان و}أسلم وجهه لله }معناه أخلص دينه لله وخضع له وتوجه إليه بالعبادة. قال ابن عباس: أراد أبا بكر الصديق رضي الله عنه. وانتصب }دينا }على البيان. }وهو محسن }ابتداء وخبر في موضع الحال، أي موحد فلا يدخل فيه أهل الكتاب؛ لأنهم تركوا الإيمان بمحمد عليه السلام. والملة الدين، والحنيف المسلم وقد تقدم. قوله تعالى{واتخذ الله إبراهيم خليلا} قال ثعلب: إنما سمي الخليل خليلا لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللا إلا ملأته؛ وأنشد قول بشار: وخليل فعيل بمعنى فاعل كالعليم بمعنى العالم وقيل: هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى المحبوب، وإبراهيم كان محبا لله وكان محبوبا لله. وقيل: الخليل من الاختصاص فالله عز وجل أعلم اختص إبراهيم في وقته للرسالة. واختار هذا النحاس قال: والدليل على هذا أي لا ممنوع. قال الزجاج: ومعنى الخليل: الذي ليس في محبته خلل؛ فجائز أن يكون سمي خليلا لله بأنه الذي أحبه واصطفاه محبة تامة. وجائز أن يسمى خليل الله أي فقيرا إلى الله تعالى؛ لأنه لم يجعل فقره ولا فاقته إلا إلى الله تعالى مخلصا في ذلك. والاختلال الفقر؛ فروي أنه لما رمي بالمنجنيق وصار في الهواء أتاه جبريل عليه السلام فقال: ألك حاجة ؟ قال: أما إليك فلا. فخلق الله تعالى لإبراهيم نصرته إياه. وقيل: سمي بذلك بسبب أنه مضى إلى خليل له بمصر، وقيل: بالموصل ليمتار من عنده طعاما فلم يجد صاحبه، فملأ غرائره رملا وراح به إلى أهله فحطه ونام؛ ففتحه أهله فوجدوه دقيقا فصنعوا له منه، فلما قدموه إليه قال: من أين لكم هذا ؟ قالوا: من الذي جئت به من عند خليلك المصري؛ فقال: هو من عند خليلي؛ يعني الله تعالى؛ فسمي خليل الله بذلك. وقيل: إنه أضاف رؤساء الكفار وأهدى لهم هدايا وأحسن إليهم فقالوا له: ما حاجتك ؟ قال: حاجتي أن تسجدوا سجدة؛ فسجدوا فدعا الله تعالى وقال: اللهم إني قد فعلت ما أمكنني فافعل اللهم ما أنت أهل لذلك؛ فوفقهم الله تعالى للإسلام فاتخذه الله خليلا لذلك. ويقال: لما دخلت عليه الملائكة بشبه الآدميين وجاء بعجل سمين فلم يأكلوا منه وقالوا: إنا لا نأكل شيئا بغير ثمن فقال لهم: أعطوا ثمنه وكلوا، قالوا: وما ثمنه ؟ قال: أن تقولوا في أوله باسم الله وفي آخره الحمد لله، فقالوا فيما بينهم: حق على الله أن يتخذه خليلا؛ فاتخذه الله خليلا. آخر: فإن خيرت بينهم فألصق بأهل العقل منهم والحياء
فإن العقل ليس له إذا ما تفاضلت الفضائل من كفاء وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه: فلا تغررك خلة من تؤاخي فمالك عند نائبة خليل
وكل أخ يقول أنا وفي ولكن ليس يفعل ما يقول
سوى خل له حسب ودين فذاك لما يقول هو الفعول {ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا} قوله تعالى{ولله ما في السماوات وما في الأرض} أي ملكا واختراعا. والمعنى إنه اتخذ إبراهيم خليلا بحسن طاعته لا لحاجته إلى مخالته ولا للتكثير به والاعتضاد؛ وكيف وله ما في السموات وما في الأرض ؟ وإنما أكرمه لامتثاله لأمره. قوله تعالى{وكان الله بكل شيء محيطا }أي أحاط علمه بكل الأشياء. {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما} نزلت بسبب سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في الميراث وغير ذلك؛ فأمر الله نبيه عليه السلام أن يقول لهم: الله يفتيكم فيهن؛ أي يبين لكم حكم ما سألتم عنه. وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء، وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها فسألوا فقيل لهم: إن الله يفتيكم فيهن. روى أشهب عن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل فلا يجيب حتى ينزل عليه الوحي، وذلك في كتاب الله }ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن}. قوله تعالى{وما يتلى عليكم} }ما} في موضع رفع، عطف على اسم الله تعالى. والمعنى: والقرآن يفتيكم فيهن، وهو قوله وقوله تعالى{وترغبون أن تنكحوهن }أي وترغبون عن أن تنكحوهن، ثم حذفت }عن}. وقيل: وترغبون في أن تنكحوهن ثم حذفت }في}. قال سعيد بن جبير ومجاهد: ويرغب في نكاحها وإذا كانت كثيرة المال. وحديث عائشة يقوي حذف }عن }فإن في حديثها: وترغبون أن تنكحوهن رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال؛ وقد تقدم أول السورة. {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} قوله تعالى{وإن امرأة }رفع بإضمار فعل يفسره ما بعده. و}خافت }بمعنى توقعت. وقول من قال: خافت تيقنت خطأ. قال الزجاج: المعنى وإن امرأة. خافت من بعلها دوام النشوز. قال النحاس: الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز التباعد، والإعراض ألا يكلمها ولا يأنس بها. ونزلت الآية بسبب سودة بنت زمعة. في هذه الآية من الفقه الرد على الرعن الجهال الذين يرون أن الرجل إذا أخذ شباب المرأة وأسنت لا ينبغي أن يتبدل بها. قال ابن أبي مليكة: إن سودة بنت زمعة لما أسنت أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها، فآثرت الكون معه، فقالت له: أمسكني وأجعل يومي لعائشة؛ ففعل صلى الله عليه وسلم، وماتت وهي من أزواجه. قلت: وكذلك فعلت بنت محمد بن مسلمة؛ روى مالك عن ابن شهاب عن رافع بن خديج أنه تزوج بنت محمد بن مسلمة الأنصارية، فكانت عنده حتى كبرت، فتزوج عليها فتاة شابة، فآثر الشابة عليها، فناشدته الطلاق، فطلقها واحدة، ثم أهملها حتى إذا كانت تحل راجعها، ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقها واحدة، ثم راجعها فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فقال: ما شئت إنما بقيت واحدة، فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة، وإن شئت فارقتك. قالت: بل أستقر على الأثرة. فأمسكها على ذلك؛ ولم ير رافع عليه إثما حين قرت عنده على الأثرة. رواه معمر عن الزهري بلفظه ومعناه وزاد: فذلك الصلح الذي بلغنا أنه نزل فيه }وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير}. قال أبو عمر بن عبدالبر: قول والله أعلم{فآثر الشابة عليها }يريد في الميل بنفسه إليها والنشاط لها؛ لا أنه آثرها عليها في مطعم وملبس ومبيت؛ لأن هذا لا ينبغي أن يظن بمثل رافع، والله أعلم. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رجلا سأل عن هذه الآية فقال: هي المرأة تكون عند الرجل فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو فقرها أو كبرها أو سوء خلقها وتكره فراقه؛ فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له أن يأخذ وإن جعلت له من أيامها فلا حرج. وقال الضحاك: لا بأس أن ينقصها من حقها إذا تزوج من هي أشب منها وأعجب إليه. وقال مقاتل بن حيان: هو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوج عليها الشابة؛ فيقول لهذه الكبيرة: أعطيك من مالي على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك من الليل والنهار؛ فترضى الأخرى بما اصطلحا عليه؛ وإن أبت ألا ترضى فعليه أن يعدل بينهما في القسم قال علماؤنا: وفي هذا أن أنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة؛ بأن يعطي الزوج على أن تصبر هي، أو تعطي هي على أن يؤثر الزوج، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة، أو يقع الصلح على الصبر والأثرة من غير عطاء؛ فهذا كله مباح. وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشيء تعطيها، قرأ الكوفيون }يصلحا}. والباقون }أن يصالحا}. الجحدري }يصلحا} فمن قرأ }يصالحا }فوجهه أن المعروف في كلام العرب إذا كان بين قوم تشاجر أن يقال: تصالح القوم، ولا يقال: أصلح القوم ؟ ولو كان أصلح لكان مصدره إصلاحا. ومن قرأ }يصلحا }فقد استعمل مثله في التشاجر والتنازع؛ كما قال }فاصلح بينهم}. ونصب قوله{صلحا} على هذه القراءة على أنه مفعول، وهو اسم مثل العطاء من أعطيت. فأصلحت صلحا مثل أصلحت أمرا؛ وكذلك هو مفعول أيضا على قراءة من قرأ }يصالحا }لأن تفاعل قد جاء متعديا؛ ويحتمل أن يكون مصدرا حذفت زوائده. ومن قرأ }يصلحا }فالأصل }يصتلح }ثم صار إلى يصطلحا، ثم أبدلت الطاء صادا وأدغمت فيها الصاد؛ ولم تبدل الصاد طاء لما فيها من امتداد الزفير. قوله تعالى{والصلح خير} لفظ عام مطلق يقتضي أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق. ويدخل في هذا المعنى جميع ما يقع عليه الصلح بين الرجل وامرأته في مال أو وطء أو غير ذلك. }خير }أي خير من الفرقة؛ فإن التمادي على الخلاف والشحناء والمباغضة هي قواعد الشر، قوله تعالى{وأحضرت الأنفس الشح }إخبار بأن الشح في كل أحد. وأن الإنسان لا بد أن يشح بحكم خلقته وجبلته حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره؛ يقال: شح يشح (بكسر الشين ) قال ابن جبير: هو شح المرأة بالنفقة من زوجها وبقسمه لها أيامها. وقال ابن زيد: الشح هنا منه ومنها. وقال ابن عطية: وهذا أحسن؛ فإن الغالب على المرأة الشح بنصيبها من زوجها، والغالب على الزوج الشح بنصيبه من الشابة. والشح الضبط على المعتقدات والإرادة وفي الهمم والأموال ونحو ذلك، فما أفرط منه على الدين فهو محمود، وما أفرط منه في غيره ففيه بعض المذمة، وهو الذي قال الله فيه قلت: قوله تعالى{وإن تحسنوا وتتقوا }شرط }فإن الله كان بما تعملون خبيرا }جوابه. وهذا خطاب للأزواج من حيث إن للزوج أن يشح ولا يحسن؛ أي إن تحسنوا وتتقوا في عشرة النساء بإقامتكم عليهن مع كراهيتكم لصحبتهن واتقاء ظلمهن فهو أفضل لكم. {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما} قوله تعالى{ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل} أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء، وذلك في ميل الطبع بالمحبة والجماع والحظ من القلب. فوصف الله تعالى حالة البشر وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض؛ ولهذا قوله تعالى{فتذروها كالمعلقة} أي لا هي مطلقة ولا ذات زوج؛ قاله الحسن. وهذا تشبيه بالشيء المعلق من شيء؛ لأنه لا على الأرض استقر ولا على ما علق عليه انحمل؛ وهذا مطرد في قولهم في المثل{ارض من المركب بالتعليق}. وفي عرف النحويين فمن تعليق الفعل. ومنه في حديث أم زرع في قول المرأة: زوجي العشنق، إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق. وقال قتادة: كالمسجونة؛ وكذا قرأ أبي }فتذروها كالمسجونة}. وقرأ ابن مسعود }فتذروها كأنها معلقة}. وموضع }فتذروها} نصب؛ لأنه جواب النهي. والكاف في }كالمعلقة} في موضع نصب أيضا. {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما، ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا، ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} قوله تعالى{وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته }أي وإن لم يصطلحا بل تفرقا فليحسنا ظنهما بالله، فقد يقيض للرجل امرأة تقر بها عينه، وللمرأة من يوسع عليها. وروي عن جعفر بن محمد أن رجلا شكا إليه الفقر، فأمره بالنكاح، فذهب الرجل وتزوج؛ ثم جاء إليه وشكا إليه الفقر، فأمره بالطلاق؛ فسئل عن هذه الآية فقال: أمرته بالنكاح لعله من أهل هذه الآية{إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} فلما لم يكن من أهل تلك الآية أمرته بالطلاق فقلت: فلعله من أهل هذه الآية }وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته}. قوله تعالى{ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم }أي الأمر بالتقوى كان عاما لجميع الأمم: وقد مضى القول في التقوى. }وإياكم} عطف على }الذين}. }أن اتقوا الله} في موضع نصب؛ قال الأخفش: أي بأن اتقوا الله. وقال بعض العارفين: هذه الآية هي رحى أي القرآن، لأن جميعه يدور عليها. قوله تعالى{وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا، ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} إن قال قائل: ما فائدة هذا التكرير ؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه كرر تأكيدا؛ ليتنبه العباد وينظروا ما في ملكوته وملكه وأنه غني عن العالمين. الجواب الثاني: أنه كرر لفوائد: فأخبر في الأول أن الله تعالى يغني كلا من سعته؛ لأن له ما في السموات وما في الأرض فلا تنفد خزائنه. ثم قال: أوصيناكم وأهل الكتاب بالتقوى }وإن تكفروا }أي وإن تكفروا فإنه غني عنكم؛ لأن له ما في السموات وما في الأرض. ثم أعلم في الثالث بحفظ خلقه وتدبيره إياهم بقوله{وكفى بالله وكيلا }لأن له ما في السموات وما في الأرض. وقال{ما في السموات} ولم يقل من في السموات؛ لأنه ذهب به مذهب الجنس، وفي السموات والأرض من يعقل ومن لا يعقل.
|